يصبح للسؤال عن حماس بعد يحيى السنوار، سؤال عن إمكان عودة الحركة من “تغريبتها الإيرانية” إلى موئلها الأول، أي إلى حضن الجماعة الأم؟ وليست الإجابة عن هذا السؤال سهلة، إلا أنها تغري بالتأمل والتوقع.

الحديث عن حركة حماس بعد يحيى السنوار ممكن أكثر من الحديث عن حزب الله بعد السيد حسن نصرالله، ذاك أن الطبيعة الجهازاتية للحزب، واتصالها المباشر بولاية الفقيه وبما يراه “نائب الإمام”، يصعّبان مهمة التوقع والاستنتاج ويربطانهما بما يصعب على التحليل إدراكه. أما حماس فهي تنظيم أفقي فيه مراكز قوى معروفة، والسنوار كان أكثرها تصدراً، إلا أنه ليس الوحيد. ثم إن الجوهر الإخواني للجماعة الفلسطينية يتيح لها مرونة تنظيمية لا يتمتع بها حزب الله.

لم يكن انتخاب يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس، في أعقاب اغتيال سلفه إسماعيل هنية، المؤشر الأخير إلى تصدّر السنوار الحركة. فالطبيعة الميدانية لقيادة هذا الأخير تولت مهمة تصدّره الحركة قبل أن ينتهي إليه المنصب الأرفع فيها. فـ”أبو إبراهيم” على ما يخاطبه المقربون منه، نجح في هيكلة الجماعة وفي بلورة نوع من الاستقلالية لكتائب شهداء الأقصى عن الجسم التنظيمي للحركة، الذي يتّسع ويتداخل مع بنى تنظيمية تشمل هياكل إخوانية تمتد إلى الأردن، وترتبط بالجماعة الأم للإخوان، بدءاً من مصر ووصولاً إلى تركيا.

في شخصية السنوار عناصر تتعدى الإخوان المسلمين. فالرجل مثلاً شديد الإعجاب بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهي مفارقة نادرة في الخيارات الإخوانية. وهو أيضاً من القيادات السجنية لحماس، إذ أمضى في السجن الإسرائيلي أكثر من عقدين شكل خلالهما مزاجاً يتعدى الوجدان الإخواني الذي غالباً ما يأسر صاحبه بمشاعر الجماعة وبخياراتها النفسية والاجتماعية. ولعل أوضح نتائج هذا الاستقلال النسبي عن البعد الإخواني لحماس، سهولة صوغ السنوار علاقة الحرس الثوري الإيراني مع ما يمثله هذا الأخير من حساسية مذهبية لطالما اشتغلت في الوعي الإخواني.

وبهذا المعنى يصبح للسؤال عن حماس بعد يحيى السنوار، سؤال عن إمكان عودة الحركة من “تغريبتها الإيرانية” إلى موئلها الأول، أي إلى حضن الجماعة الأم؟ وليست الإجابة عن هذا السؤال سهلة، إلا أنها تغري بالتأمل والتوقع. فالحرب التي أعقبت عملية 7 أكتوبر، والتي أبدت فيها كتائب شهداء الأقصى بقيادة “أبو إبراهيم” قوة وبأساً غير متوقعين، تولت تحييد غالبية قيادات حماس المقربة من إيران أمثال صالح العاروري ومحمد الضيف، وبدرجة أقل إسماعيل هنية.

والأهم أن الحرب، وبعد سنة من وحشية الجيش الإسرائيلي، تولت على الأقل إضعاف “كتائب شهداء الأقصى” مع ما يترتب على ذلك من احتمالات استيقاظ مراكز القوى الأخرى في الحركة، وهي بمعظمها أكثر إخوانية من الكتائب العسكرية، وأقل حماسة لعلاقة عضوية مع طهران.

ومن الأمثلة على تفاوتات شهدتها مواقع حماس في علاقتها مع الأحداث، ذلك الفصام الذي عاشته بين انخراط قيادتها الإخوانية في دعم الثورة السورية، ومواصلة فصيلها العسكري العلاقة مع طهران، راعية النظام السوري وحاميته. علماً أن النظام في سوريا أبقى على خصومته مع قيادة الحركة واستثنى من هذه الخصومة قيادات قريبة من إيران أمثال صالح العاروري، بحيث كانت لهذا الأخير أدوار في نقل السلاح إلى الضفة الغربية عبر سوريا، وبتسهيل من نظامها.

إقرأوا أيضاً:

هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!

لماذا أخفق حزب الله؟
قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن دور القيادي التاريخي لحماس خالد مشعل، وقد تسارعت الحركة إلى تعيين شقيق السنوار، محمد، خلفاً له، كنوع من الالتفاف المعنوي على حدث الاغتيال، إلا أنه من غير المنطقي الاعتقاد بأن الحرب أبقت “حماس” على الخيارات التي سبقت 7 أكتوير.

وهنا لا بد من التذكير بالبعد البراغماتي للإخوان المسلمين، وبخبراتهم في التعامل مع الخسارات التي لطالما مُنيوا بها. هذه البراغماتية قد تكون مدخلاً لإعاقة المهمة الإسرائيلية المتمثلة بـ”القضاء على حماس”، فالحركة ليست كتائب شهداء الأقصى، وأذرعها في الضفة الغربية والأردن والشتات الفلسطيني ستمثل فرصاً لاستئناف نشاط الجماعة ولأشكال وجودها.

“القضاء على حماس” بوصفه مهمة إسرائيلية إبادية في غزة، سيكون وهماً في بؤر نفوذ الحركة الأخرى. وفي مقابل ذلك، يبقى السؤال عن قدرة الحركة على هضم الضربات التي تعرضت لها عبر تشغيل محركات أخرى تتولى المفاوضة والتنازل والاستثمار بصورة السنوار من دون تثبيتها بوصفها الخيار الوحيد للجماعة. وهنا تحضر “قيادة الدوحة”، لا لترثي السنوار، إنما لتحاول استئناف شيء من “السياسة” كانت 7 أكتوبر قد أوقفته.

من المرجح ألا يكون ملف الأسرى الإسرائيليين لدى حماس اختباراً لهذا الخيار، ذاك أن “الدماء ما زالت على الأرض”، ولن تبدد جماعة الدوحة الورقة التي كانت بيد السنوار، بل ستواصل المفاوضة عليها بشروط “أبو إبراهيم”.

أما الاختبار الفعلي لهذا الاحتمال فيتمثل بمدى المرونة في الذهاب إلى خيار فلسطيني بقيادة منظمة التحرير، يتولى الضغط لانتزاع قرار بتسليم قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، وبإشراف مصري، وإن كان من غير المتوقع أن يُسهل نتانياهو هذه المهمة.

محمد المخلافي

صحافي يمني حاصل على درجة الليسانس في الشريعة والقانون