شهدت ظاهرة قتل النساء في تونس ارتفاعاً مطرداً في عدد الضحايا، وتزامن ذلك للمفارقة مع إصدار القانون 58 لمناهضة العنف المسلط على النساء عام 2017، والذي دخل حيّز التنفيذ في 2018، إذ أحصت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن 69 جريمة قتل ارتُكبت في 19 محافظة تونسية (على 24 محافظة في تونس) في الفترة الممتدة ما بين كانون الثاني/ يناير 2018 و30 حزيران/ يونيو 2023، مبينة أن عدد الجرائم تضاعف أربع مرات خلال هذه الفترة.
فيما تحتفل تونس بعيد المرأة التونسية يوم 13 آب/ أغسطس من كل سنة (الموافق للذكرى 68 لصدور مجلة الأحوال الشخصية)، ترتفع أعداد النساء اللاتي يتعرضن للقتل على أيدي أزواجهن أو أفراد من عائلاتهن، في دلالة واضحة على أن العقلية الذكورية البطريركية لا تزال تحكم المجتمع التونسي، وعلى أن الدولة غير قادرة على حماية النساء على رغم وجود منظومة قانونية متقدمة.
“كل واحدة تموت، أموت معاها”، هكذا عبرت ألفة (إسم مستعار) وهي تبتسم ابتسامة حزينة وتحبس الدموع في عينيها. ألفة، 49 سنة وأم لبنتين، كان يمكن أن تكون ضحية جديدة ضمن القائمة الطويلة لضحايا قتل النساء في تونس، والتي بلغت 69 ضحية في عام 2023 حسب إحصاءات وزارة المرأة. لكنها نجت بأعجوبة من كل محاولات زوجها لقتلها. وهي وإن تحصّلت اليوم على الطلاق، فإنها لا تزال تُعاني من الآثار النفسية للتجربة الأليمة التي عاشتها، كما أنها تتعاطف مع كل ضحية جديدة للعنف الزوجي وللقتل من القرين.
“حاول زوجي قتلي بوضع سلك كهرباء عارٍ في الأرض أثناء قيامي بريّ النباتات في البيت. كان يريد أن تكون ميتتي على شكل حادث منزلي كي لا يتحمّل مسؤوليتها. لم أتفطّن إلى نيّته في البداية، حتى اقتربت ابنتي الصغرى التي كانت تلعب في الجوار من مكان السلك، فصرخ صرخة مدوّية وأبعدها. عندها فهمت ما كان يخطّط له”، تروي ألفة بحسرة، مضيفةً: “لم تكن المرة الوحيدة التي حاول فيها التخلّص مني، فقد عمد سابقاً إلى خنقي، بالإضافة إلى أنه كان يحتفظ دائماً بآلات حادة قرب السرير. وكانت ابنتي الصغرى لا تنفكّ تقول لي، دعينا نغادر البيت يا أمي، إن أبي يريد بك شراً”.
تُعتبر ألفة محظوظة، على عكس رفقة، وفاء، سعاد، صابرين وغيرهن نساء كثيرات قُتلن في الفضاء الخاص من القرين أو أحد أفراد العائلة، بطرق وحشية تراوحت بين الطعن والذبح والحرق. جرائم هزّت المجتمع التونسي ودقّت ناقوس الخطر لجهة وضعية المرأة التونسية، على رغم تطوّر الترسانة القانونية بصدور القانون عدد 58 الخاص بمناهضة العنف ضد المرأة منذ 2017، لتجعل المجتمع المدني في تونس يتحرك بقوة للتنديد بجرائم القتل ضد النساء والضغط على الدولة لتوفير آليات الحماية لهن.
“لو قتلتك فلن تستطيع الشرطة أن تعاقبني”
“تزوجته تحت إصرار أهلي وكان أكبر مني بـ 15 سنة. لم يكن عنيفاً في البداية، لكنني لاحظت تدريجياً أنه كان يحاول السيطرة عليّ ويعنّفني معنوياً ولفظياً. فاجأني ذات يوم فيما كنت حاملاً بابنتي ليلى (12 سنة اليوم) قائلاً: أتعرفين لو قتلتك فلن تستطيع الشرطة أن تعاقبني. وذلك في إشارة الى المرض النفسي الذي كان يعاني منه ولم يخبرني به سابقاً، حتى اكتشفته تدريجياً. مذاك، أصبحت أخاف منه”، تستذكر ألفة بألم، وتتابع: “في تلك الفترة نفسها، كان يشتري سكاكين كثيرة ويضعها دائماً بالقرب منه، الشأن الذي جعلني مرعوبة كل الوقت، فقررت ألا أعارضه في أي شيء خوفاً على حياتي”.
على رغم ذلك، حاولت ألفة مساعدة زوجها والذهاب معه الى الطبيب النفسي، لكنه سرعان ما تخلّى تدريجياً عن متابعة العلاج وأصبح يمكث كل الوقت في البيت ولا يقبل أي نقاش.
خلال جائحة كورونا، تعقّد الوضع أكثر، إذ زاد الزوج انغلاقاً على نفسه. تقول ألفة: “ذات ليلة خلال عام 2020، طلب مني شيئاً، فاستمهلته لحظات، ليدخل في نوبة غضب عارمة. بدأ يضربني على رأسي وحاول خنقي وضرب ابنتي أيضاً. وبصعوبة استطعنا الاتصال بالأمن لإخراجه من المنزل”. آنذاك، قدمت ألفة شكوى بتعرّضها للعنف وأُلزم الزوج العنيف بالابتعاد عن محل الزوجية وعدم التعرّض لها. وبقي بعيداً عن المنزل لمدة 3 أشهر. ولكن “خالي ضغط عليّ لكي أسامحه وأعطيه فرصة. ففعلت ويا ليتني ما قبلت”، تتحسّر ألفة.
بعد إسقاط شكوى العنف ضد زوجها، لم تتحسّن الأوضاع بينهما، إذ واصل محاولاته الإساءة إليها وترويعها. “كان أحياناً يوهمني بأنه سيقتلني عندما يحاول أن يصدمني في الجدار أثناء قيادته السيارة، وذات يوم أراد طردي من المنزل، هذا عدا عن التهديدات المتواصلة بالتخلص مني”.
ما جعل ألفة تقرّر أخيراً تركه وطلب الطلاق، هو إحساسها بأنّه أصبح يريد الطعن في شرفها باتهامها بأنها على علاقة بشخص آخر. “شعرت أنه كان يريد أن يشوّه صورتي لدى أهلي وأهله، حتى يُبرّر في ما بعد إقدامه على قتلي”.
كانت عائلة ألفة تعي خطورة الموقف، وعلى رغم ذلك قال خالها لوالدتها “لو كان مقدراً لها أن تموت مطعونة، فليكن”. ولكن ألفة رفضت أن يكون مصيرها الموت، وشجعتها ابنتاها على ترك زوجها، لا سيما أنهما شعرتا بأن وجوده بقربها أصبح خطراً على حياتها. تشير ألفت: “عندما خرجت من منزل زوجي للمرة الأخيرة، كان لدي إحساس بأنني تخلصت من كابوس. وكأنني وُلدت من جديد”.
69 جريمة قتل ما بين 2018 و 2023
شهدت ظاهرة قتل النساء في تونس ارتفاعاً مطرداً في عدد الضحايا، وتزامن ذلك للمفارقة مع إصدار القانون 58 لمناهضة العنف المسلط على النساء عام 2017، والذي دخل حيّز التنفيذ في 2018، إذ أحصت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن 69 جريمة قتل ارتُكبت في 19 محافظة تونسية (على 24 محافظة في تونس) في الفترة الممتدة ما بين كانون الثاني/ يناير 2018 و30 حزيران/ يونيو 2023، مبينة أن عدد الجرائم تضاعف أربع مرات خلال هذه الفترة، كما أن جرائم قتل النساء تمت في المنزل بنسبة 93 في المئة خلال 2021 وكان الزوج هو القائم بالجريمة في 71 في المئة من الحالات.
من جهتها، أحصت جمعية أصوات نساء وجمعية المرأة والمواطنة بالكاف في تقرير بعنوان “تقتيل النساء الظاهرة المسكوت عنها”، 25 جريمة قتل نساء في 2023 من بينهن 13 ضحية قُتلن على يد أزواجهن و3 نساء من طرف آبائهن و4 نساء من أقاربهن و5 ضحايا قتلن من طرف مجهول. وحول طريقة القتل، تبين أن 7 نساء قُتلن طعناً بآلات حادة وثلاث نساء ذبحاً و6 خنقاً و4 نساء قُتلن نتيجة الضرب على الرأس.
وجاء في التقرير الذي نشرته الجمعيتان هذه السنة، أن ظاهرة قتل النساء لم تقتصر على فئة عمرية محددة وإنما شملت النساء من جميع الفئات العمرية، كما أن نسبة كبيرة من الضحايا هن من المتزوجات (52 في المئة). وتم تفسير ذلك بـ”عدم المساواة في السلطة بين الجنسين والسيطرة الذكورية في العلاقات الزوجية، إذ يستخدم الرجال العنف كوسيلة لتحقيق هيمنتهم داخل الأسرة”.
قتل جندري
تعود أصول تسمية “قتل النساء” أو féminicide إلى اللغة اللاتينية وتتكوّن من مصطلحين: femina وتعني امرأة و cide المستمدة من caedere وتعني القتل. وقد تم تشكيل هذا المصطلح استناداً إلى مصطلح آخر وهو homicide ويعني القتل. انطلاقاً من هذه التسمية، نجد أن هناك تمييزاً بين التسميتين على أساس جندري، فقتل النساء féminicide يعني قتلهن لأنهن نساء أي بسبب جنسهن الذي يُعتبر جنساً دونياً وفقاً للمخيال المجتمعي الذكوري والبطريركي، وبالتالي نتحدث هنا عن جريمة نوعية.
“مصطلح féminicide جاءت به النسويات وليس علماء الاجتماع، وذلك لتأكيد أن هذا النوع من الجرائم يحصل لأن الجنس الأنثوي يُنظر إليه على أنه ذو مكانة أقل من الذكر في مجتمع تهيمن فيه الذكورية ويتم فيه اعتبار المرأة كجسد يتم التحكم فيه وليس كإنسان له حقوق”، تفسّر أستاذة علم الاجتماع والناشطة النسوية فتحية السعيدي.
نجد في تقرير جمعية أصوات نساء وجمعية المرأة والمواطنة بالكاف، أن “مصطلح قتل النساء يشير إلى الأبعاد الاجتماعية والجندرية المرتبطة بهذه الظاهرة، والمتمثلة في أن عملية قتل النساء تُرتكب بسبب الجنس أو النوع الاجتماعي، وغالباً ما تكون ناتجة من التمييز الجنساني، السيطرة الذكورية، العنف الأسري، الثقافة والعادات التقليدية، التناول الإعلامي المسيء الى النساء وغيرها من العوامل. وترتبط هذه الظاهرة بجرائم عنف أخرى مثل جرائم الشرف، العنف الجنسي، الاغتصاب والتحرش الجنسي والجرائم العنيفة الأخرى”.
في تونس وفي العالم العربي، لا يوجد إلى حدّ الآن اتفاق على مصطلح واحد، فالمجتمع المدني الذي يقود النضال حالياً على المستوى الوطني للاعتراف بهذه الجريمة يتحدث عن “قتل النساء” أو “تقتيل النساء” أو “قتل على أساس النوع الاجتماعي”. ولكنْ، هناك إجماع على ضرورة الاعتراف الصريح بهذه الجريمة وإصدار قانون خاص بها.
المطالبة بقانون خاص لتجريم “قتل النساء”
يُجرّم القانون 58 الخاص بمناهضة العنف ضد المرأة في تونس الكثير من أشكال العنف مثل العنف الجسدي والمعنوي والجنسي، ولكنه لم يذكر تعريفاً خاصاً بجريمة “قتل النساء” على رغم ارتفاع أعداد الضحايا، فهو يعتبر الاعتداء على حياة المرأة أو قتلها بمثابة “عنف جسدي”. لذلك، تعمل ناشطات نسويات كثيرات في تونس ومنظمات المجتمع المدني التي تشتغل على قضايا النساء، إما على إدراج هذا النوع من الجرائم في المجلة الجزائية أو على إفراده بتعريف خاص به.
ترى المحامية والناشطة النسوية في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات منية العابد، أن وجود نص خاص بجريمة “قتل النساء” سيُمكن من “الاعتراف بشكل صريح بها، وبالتالي من حصول محاكمات تُدين العقلية الذكورية التي تُشرّع مثل هذه الجرائم، ما يُساهم في الحد ّمنها”. وتستدلّ على ذلك بما حصل في إسبانيا، حيث ساهم وضع قانون خاص بقتل النساء في العمل على “تغيير العقليات وتكريس مبدأ المساواة بين الجنسين”.
من جهتها، تعتبر سارة بن سعيد، المديرة التنفيذية لجمعية أصوات نساء، أن” إفراد جريمة قتل النساء بقانون خاص سيضعها كأولوية في سياسات الدولة”، بخاصة أن ارتفاع منسوب العنف ضدهن وقضايا قتلهن مردّه في رأيها الى”نظرة الدولة المحافظة للمرأة، إذ تعتبرها كجزء من العائلة وليس ككائن له حقوق وتجب حمايته”.
هناك بلدان كثيرة حول العالم خصّصت قانوناً لجريمة قتل النساء مثل إسبانيا وبلجيكا وبلدان أميركا اللاتينية التي وقّعت في 1994 على اتفاقية البلدان الأميركية لمنع العنف ضد المرأة ومعاقبة فاعله والقضاء عليه، والمعروفة باسم “اتفاقية بيليم دوبارا”، وهي أول اتفاقية يتم فيها الاعتراف دولياً بظاهرة قتل النساء. واللافت في هذه المبادرات، أنها استُتبعت بجملة من الآليات والتدابير لحماية ضحايا جرائم قتل النساء ووضع نظام لاحتسابها وتحليلها والوقاية منها.
قضية رفقة الشارني المنعطف الأساس
في تونس، بدأ الاهتمام بقضية “قتل النساء” كقضية محورية بالتزامن مع جريمة قتل رفقة الشارني في 9 أيار/ مايو 2021 على يد زوجها الكادر الأمني في الحرس الوطني بـ5 رصاصات. أثارت قضيتها الرأي العام لأن الضحية كانت أبلغت السلطات الأمنية قبلها بيومين بتعرضها للعنف الجسدي من زوجها من دون أن يتم توفير الحماية لها ونزع سلاح الزوج العنيف، لتجد نفسها قتيلة وهي في سن الـ26، تاركةً وراءها طفلاً بعمر سنة.
عن هذه الجريمة الشنيعة يتحدث ياسين أخ رفقة لـ”درج” قائلاً: “أختي كانت كتومة في ما يخص مشاكلها مع زوجها، ولكنها في الأسبوع الأخير قبل موتها، أخبرتنا، نحن عائلتها، أنها لم تعد على وفاق معه وأنها تريد الطلاق. في الفترة نفسها، قام بضربها وخنقها، فرفعت شكوى ضده في مركز الشرطة لاستعماله العنف تجاهها. هناك وعلى رغم أنهم أنّبوه تأنيباً شديداً على تعنيفها، إلا أنهم تركوه في حالة سراح ولم ينزعوا عنه سلاحه”.
يضيف مستنكراً: “ما أدهشني هو أن أخاه، وهو أيضاً عون أمن، نزعت الشرطة سلاحه عندما وقعت سابقاً مشكلة بينه وبين شخص في الشارع. فلماذا لم يتم التعامل بالطريقة نفسها مع قاتل أختي؟”.
بعد يومين من الشكوى، اتصلت رفقة بزوجها لتطلب الإذن بالذهاب إلى محل الزوجية لتأخذ ملابس ابنها، الذي أرادت أن تحتفل بعيد ميلاده ولكن عند وصولها إلى هناك، أخرج الزوج سلاحه ليطلق عليها خمس رصاصات أردتها قتيلة.
“أكثر ما حزّ في نفسي هو أنه (الجاني) لم يبد أي ندم على فعلته وكان يأتي إلى جلسات المحاكمة بمعنويات عالية، وينظر إلينا (عائلة رفقة) ويبتسم باستفزاز”، يتذكر ياسين والألم يعتصر قلبه.
“كان لدى الجاني إحساس أنه بحكم وظيفته ككادر في الحرس الوطني، سيتحصّل على حكم مخفف وأنه لن ينال العقاب الذي يستحقه، لذلك كان يأتي إلى قاعة الجلسات وكله ثقة”، تؤكد المحامية منية العابد التي كلفتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات بأن تنوب في القضية.
تضافرت جهود الكثير من الجمعيات النسوية لجعل هذه الجريمة قضية رأي عام من خلال التعريف بها والقيام بالتتبعات العدلية ضد القاتل. وكان الهدف، خلق وعي لدى الرأي العام بخطورة ظاهرة قتل النساء بشكل عام.
“بالنسبة إلينا، مثلث قضية رفقة منعطفاً أساسياً في تعاطينا مع قضايا قتل النساء كنسويات لأنها قضية يتقاطع فيها الكثير من أنواع العنف المسلط على المرأة، فنجد العنف الجسدي والعنف الزوجي والعنف البوليسي والعنف الإداري”، توضح أحلام بو سروال، الكاتبة العامة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات.
بفضل جهود الجمعيات النسائية والمحامين، حُكم على القاتل في الطور الابتدائي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 بـ30 سنة سجناً بتهمة “القتل العمد”. “لكننا استأنفنا الحكم لأننا كنا ندرك أنه كان هناك سبق إصرار وترصد”، توضح منية العابد، مضيفة “القاتل كان على علم بقدوم الضحية وكان يخطط مسبقاً لقتلها، وظلّ ينتظرها لتنفيذ مخططه. وبالتالي، نجحنا في رفع الحكم في طور الاستئناف إلى 40 سنة”.
من جهته، يعتبر ياسين أخ رفقة، أن الحكم “عادل نسبياً”، ولكن “كان من المفروض أن يُحكم الجاني بالإعدام حتى وإن كانت أحكام الإعدام لا تُنفّذ في تونس”. ويستدرك قائلاً: “لولا وقوف الجمعيات معنا لكان حق أختي ضاع، ونحن ننتظر إلى حد الآن اعتذاراً رسمياً من وزارة الداخلية لأن القاتل هو أحد أعوانها، وأداة الجريمة هي سلاح وظيفي تعود ملكيته لها”.
ثقافة التطبيع مع العنف
في محاولة لتفسير أسباب تفاقم ظاهرة قتل النساء واستشراء العنف المسلط على المرأة بشكل عام، ترى أحلام بو سروال، أن “هناك ثقافة تطبيع مع العنف المسلط على النساء، إذ يُؤمن الجميع بأن أجساد النساء هي ملك للرجال وللمجتمع، وبالتالي من الطبيعي أن يضرب الرجل زوجته أو يقتلها”. لكنها تعترف بأن هذه القضايا أصبحت اليوم أكثر وضوحاً للعيان بسبب دور الجمعيات النسوية التي ناضلت ولا تزال للاعتراف بهذه الجريمة ودور الإعلام في الحديث عنها.
من جهتها، لا تستغرب أستاذة علم الاحتماع فتحية السعيدي، ارتفاع حالات العنف ضد النساء وجرائم قتلهن، لأن “البلاد تعيش عموماً حالة من عدم الاستقرار مع وجود أزمات اقتصادية واجتماعية، وهذا يؤدي، من وجهة نظر سوسيولوجية، إلى ارتفاع منسوب العنف في المجتمع ومستويات الجريمة، كما ينعكس على الفئات الهشة، بخاصة النساء”. وتضيف، “أصبح جلياً أن المجتمع التونسي هو مجتمع محافظ بالأساس على رغم وجود مجلة الأحوال الشخصية منذ 68 عاماً وتطور القوانين، فهو يبقى مجتمعاً ينتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، التي ما زال فيها الرجل يعتبر المرأة ملكية خاصة”.
أما الأستاذة منية العابد، فترى أن النساء في تونس تتعرضن إلى عنف ممنهج لمنعهن من النجاح والتألق، بخاصة أن كثيرات منهن ناجحات. يكفي النظر إلى نسبة الخريجات من الجامعات التي تفوق الـ60 في المئة مقارنة بالذكور. “هناك نوع من الحسد من الرجال يُضاف إلى ثقافة محافظة وذكورية بالأساس”.
ضعف إجراءات الحماية
تتفق كل الناشطات في المجتمع المدني اللواتي حاورهن “درج”، على أن هناك مشكلةكبيرة على مستوى تطبيق القوانين لتوفير الحماية لضحايا العنف من النساء بهدف تجنيبهن في ما بعد الوصول إلى القتل.
فعلى مستوى توفير الحماية للنساء ضحايا العنف، يكفل لهن القانون 58 في فصله 13، الحماية القانونية والنفاذ إلى المعلومة والإرشاد القانوني والتمتع وجوباً بالإعانة العدلية، بالإضافة إلى المتابعة الصحية والنفسية والمرافقة الاجتماعية والإيواء الفوري في حدود الإمكانات المتاحة. ولكن على مستوى الواقع، الكثير من هذه التدابير لا يُطبّق.
على سبيل المثال، عندما تقدم الضحية شكوى عنف تتعرض له في مركز الشرطة، تتعرض عادة إلى الضغط من أعوان الفرق المختصة بالوقاية من العنف ضد المرأة (تم إحداثها بموجب القانون 58 في كل مركز شرطة أو حرس وطني) باسم “المحافظة على الأسرة من التفككك”، في حين أن القانون يمنع تسليط أي ضغط على الضحية في هذا المجال.
كذلك، فإنه لا يتم بالضرورة تطبيق إجراءات الحماية، والتي تتضمن أساساً إبعاد القائم بالعنف عن محل الزوجية ومنعه من التعرض للضحية في مقر سكناها أو عملها. ما يحصل في الواقع، أنه في غالب الأحيان، يُطلب منه أن يُوقّع على تعهّد في مركز الأمن بعدم التعرض لها. في حين لا توجد أية آلية للتأكد من أنه التزم بذلك. وهذا ما حصل في معظم حالات القتل، إذ يعود المعتدي إلى مقر سكن الضحية أو إلى محل الزوجية للانتقام منها وقتلها لأنها رفعت شكوى بالعنف أو طالبت بالطلاق.
“ما الذي استفادت منه أختي رفقة بالتعهّد الذي وقّعه زوجها بعدم التعرض لها وبمغادرة محل الزوجية؟ لم يمنعه ذلك من قتلها بسلاحه”، يستنكر ياسين، أخ رفقة الشارني.
أحياناً، يرفض قاضي الأسرة طلب الحماية الذي تقدمت به ضحية العنف، ما يتيح للمُعنّف أن يُنهي حياتها. وهو ما حصل في قضية وفاء السبيعي في محافظة الكاف، أستاذة تعليم ثانوي في العقد الرابع من عمرها، أضرم زوجها النار في جسدها بتاريخ 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ووقف يشاهدها وهي تحترق. وذلك بعدما رفض قاضي الأسرة تمكينها من قرار الحماية، بعد طلبها الطلاق.
“في غالبية حالات قتل النساء، كان هناك ضعف في تقدير المخاطر التي تحدق بالضحايا بعد تقديمهن شكاوى بالتعرض للعنف”، تُبيّن سارة بن سعيد من أصوات نساء. “ففي حالة رفقة الشارني، كان أول إجراء يجب اتخاذه في مركز الأمن هو تجريد الزوج من سلاحه الوظيفي بما أنه ثبت أنه رجل عنيف. وفي قضية أميرة (35 سنة) التي قتلها زوجها داخل بيت الزوجية بمنطقة المروج بمحافظة بن عروس ولاذ بالفرار إلى ليبيا، رفض أعوان الأمن في مركز الشرطة الاستجابة لطلب أم الضحية حماية ابنتها التي كانت تتعرض للعنف المتكرر من القرين”.
تشير النسويات أيضاً، إلى مسألة خطيرة وهي ثقافة التساهل مع المعُنّف والإفلات من العقاب، ففي حالات عدة، لا يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعاقبته، إما لأنه زميل (من سلك الشرطة أو الأمن) أو لأن لديه أصدقاء في سلك الأمن أو قرابة عائلية بأشخاص يشتغلون في مراكز الشرطة، بالتالي فإن ما يحصل هو أنه لا يتم أخذ شكاية الضحية بالاعتبار وتنفيذ الإجراءات اللازمة لحماية الضحية.
من جهتها، ندّدت المحامية منية العابد بضعف تفاعل قاضي الأسرة في ما يخص إصدار مطالب الحماية للنساء ضحايا العنف، ففي حين يفرض القانون عدد 58 في فصله 32، بتّ قاضي الأسرة في مطلب الحماية الذي تقدمه الضحية أو من يمثلها بشكل عاجل، “يأخذ الأمر في الواقع ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع وقد يصل إلى شهر، ما قد يُعرّض حياة المرأة المعنفة إلى الخطر في الأثناء، هذا إلى حانب تعقّد الإجراءات”.
يُضاف إلى كل ما سبق غياب فضاءات داخل المحاكم لاستقبال ضحايا العنف وضعف الإحاطة الصحية والنفسية بهن وطول مسار التقاضي بالنسبة الى الضحايا وتحملهن تكاليفه إلى جانب تكاليف العلاج، في حين يفرض القانون 58 تعهد الدولة بذلك كله. “هذا يعني أن هناك خللاً في السياسات العمومية للدولة، التي تضع الإطار التشريعي للتصدي للعنف ضد المرأة، ولكنها لا تضع الإجراءات المناسبة لتطبيقه وحماية النساء، كما أنها لم ترصد ميزانيات لذلك”، توضح الاستاذة في علوم الاجتماع فتحية السعيدي.
نقص في التكوين والوقاية
على رغم أن وزارة الداخلية أرسلت فرقاً متخصصة بالبحث في جرائم العنف ضد المرأة الى مراكز الشرطة والحرس الوطني، كما نصّ القانون، للتعهد بضحايا العنف ضد المرأة، فإنه لم يتم إلى اليوم تعميمها في كل المراكز، نظراً الى ضعف الإمكانات وتدني مستوى التدريب لأعضاء هذه الفرق.
توضّح منية العابد، “نُظِّمت دورات تدريبية كثيرة لأعضاء هذه الفرق مباشرة بعد صدور القانون، ولكن هذا المجهود قلّ تدريجياً، كما أن الكثير منهم كُلّفوا بمهام أخرى ولم يتم تعويضهم، ما أثّر بالضرورة على آداء الفرق”.
هناك أيضاً نقص على مستوى الوقاية، إذ تؤكد سارة بن سعيد “أن الدولة لا تقوم بدورها بالشكل في التوعية بمسألة العنف المسلط على المرأة وكيفية الحماية والآليات التي يكفلها القانون لذلك”، مذكرة بأن أحد الأسس التي أكّد عليها القانون 58 هو ضرورة العمل على الوقاية من العنف. وهذا الدور ليس موكلاً فقط لوزارة المرأة وإنما للكثير من الوزارات الأخرى مثل التعليم والثقافة والشباب والشؤون الدينية. “كيف بإمكان طفل ينشأ في بيئة ذكورية عنيفة ألا يكون عنيفاً في المستقبل؟” تتسائل المديرة التنفيذية لجمعية أصوات نساء، مضيفة بأسف “لا توجد اليوم برامج تعليمية في المدارس حول مسائل الجندر وحقوق النساء وثقافة اللاعنف”.
تتفق النسويات اللواتي تم استجوابهن، على أن هناك ضرورة ملحة اليوم لأن تقوم الدولة بدورها في حماية النساء من العنف عبر تعزيز إجراءات الحماية لهن وتوفير خدمات الدعم والرعاية لفائدتهن، وتشديد العقوبات على الجناة وتطوير القوانين وتطبيقها والعمل على نشر الوعي لخلق ثقافة مقاومة للعنف المسلط على المرأة.
حاولنا الاتصال بوزارة المراة لسؤالها عن سياساتها في هذا المجال، بخاصة مع تواصل ارتفاع عدد ضحايا القتل، الذي بلغ 14 ضحية نهاية شهر تموز/ يوليو 2024، ولكننا لم نتلقّ إلى حد كتابة هذه السطور أي رد.
في الأثناء، تُواصل الجمعيات النسوية في تونس النضال للقضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة، وتنظّم بين الحين والآخر مسيرات احتجاجية تعبيراً عن رفضها الاحتفال باليوم الوطني للمرأة التونسية في ظل استمرار انتهاكات حقوق النساء.
في حين تحاول ألفة، الناجية من القتل، أن ترمرم نفسها تدريجياً بعد كل ما عاشته، قائلة: “لقد وجدت نفسي أخيراً ولن أفرط في هذا الإحساس بالحرية”.