نجحت الدولة المصرية في عمل مبادرات تعزز ثقافة النساء حول الشمول المالي لتتباهى بها في مؤتمرات الأمم المتحدة، ولكنها فشلت في حماية النساء من الفقر أو ضمان إعطائهن رواتب تكفي لسد احتياجاتهن الأساسية.
يحتفل المجتمع الدولي في مطلع العام المقبل، 2025، بالذكرى الثلاثين للمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة واعتماد منهاج عمل بيجين 1995. ويورد التقرير الوطني المصري الذي أعدته الدولة المصرية لهذا المؤتمر عن التقدم المحرز في تنفيذ منهاج عمل بيجين عن الفترة من 2019 الى 2024، أن “تمكين المرأة وتحقيق المساواة بين الجنسين كانا وما زالا على رأس أولويات الدولة المصرية والقيادة السياسية”.
فيما تستعد الدولة المصرية لتعرض أرقاماً تمثل إنجازات الدولة المصرية في إعداد برامج دعم المرأة ودعم تقريرها الوطني المقدم في الأمم المتحدة، يحاصر الأمن شركة “وبريات سمنود للغزل والنسيج”، ويستعين في ذلك بنساء بملابس مدنية بهدف تهديد العاملات والعمال المضربين عن العمل منذ 17 آب/ أغسطس الماضي لمطالبتهم الشركة بتطبيق الحد الأدنى للأجور الذي أقرته الدولة المصرية في نيسان/ أبريل 2024، وقدره 6 آلاف جنيه بدلاً من 3500 جنيه.
نجحت الدولة المصرية في عمل مبادرات تعزز ثقافة النساء حول الشمول المالي لتتباهى بها في مؤتمرات الأمم المتحدة، ولكنها فشلت في حماية النساء من الفقر أو ضمان إعطائهن رواتب تكفي لسد احتياجاتهن الأساسية. وتواطأ الأمن مع إدارة شركة “وبريات سمنود” التي تضغط على العمال والعاملات لكسر إضرابهم المستمر ببسالة منذ أكثر من شهر.
لم يكتفِ الأمن بمحاصرة الشركة وتهديد العمال والعاملات وترويعهم واقتيادهم الى مقر الأمن الوطني بمدينة المحلة الكبري لمواصلة تهديدهم بالاعتقال، بل كثف أيضاً وجوده أمام مقر حزب “العيش والحرية” الذي شهد مؤتمراً لكيانات وأحزاب عدة تضامناً ودعماً لعمال “وبريات سمنود”، مقر الحزب الذي يقع في وسط البلاد التي أصبحت أشبه بثكنة عسكرية.
وكانت وزارة العمل أصدرت كتاباً دورياً إلى مديرياتها في مختلف المحافظات بشأن آليات تنفيذ قرار المجلس القومي للأجور الخاص بتطبيق حد أدنى للأجور للقطاع الخاص، 6000 جنيه مصري، أي ما يعادل (125 دولاراً) على أن يعمَّم الكتيب بتاريخ أيار/ مايو 2024. وأتاحت الوزارة للمنشآت التي تتعرض لظروف يتعذر معها صرف الحد الأدنى للأجور، الحق في تقديم طلب استثناء في موعد غايته 15 أيار 2024. وهو ما تقدّمت به إدارة شركة “وبريات سمنود” بحجة تعثّرها المالي، وتهربت من تطبيق الحد الأدنى للأجور، الأمر الذي قاد العمال والعاملات بالمصنع الى الإضراب عن العمل، فمن يستطيع العيش براتب ثلاثة آلاف جنيه شهرياً، وهو أعلى مبلغ يتقاضاه العمال في الشركة في ظل وصول نسبة التضخم في مصر خلال شهر آب/ أغسطس 26.2 في المئة، بحسب البنك المركزي المصري. وهذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها عمال مصنع “وبريات سمنود” للغزل والنسيج في إضراب عن العمل، فقد سبقته إضرابات عدة مثل إضراب عام 2014 أخذ صورة اعتصام أمام المصنع اعتراضاً على عدم صرف رواتب 9 أشهر متأخرة، وفي 2018 احتجاجاً على عدم صرف العلاوات.
إضرابات المحلة وأشباح يناير
يعي الأمن المصري جيداً قدر الإضرابات العمالية، وتأثيرها ربما أكثر من القوى المدنية، فبالقرب من هذه المدينة الصغيرة “سمنود” تقع شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة المحلة التي شهدت يناير مبكراً في انتفاضة الحد الأدنى للأجور بإضراب 6 نيسان/ أبريل عام 2008، شارك فيه آلاف العمال هاتفين “اربط أجري بالأسعار أصل العيشة مرة مرار!”، لكي يحصلوا على الحد الأدنى للأجور البالغ 1200 جنيه. واعتقل الأمن حينها عشرات من العمال، وأصيب المئات من المتظاهرين.
لم ينس الأمن المشهد الشهير لأهالي المحلة وهم يدهسون صورة مبارك يوم السادس من نيسان/ أبريل 2008، فألقى القبض على 9 من عمال وبريات سمنود من بيوتهم، وبينهم 4 عاملات بملابس المنزل، في سابقة لم تحدث من قبل، لكن شبح يناير أزال كل ما تبقى من تحرج اجتماعي أو أي امتياز محدود يمكن أن يصنعه التمييز الجنسي. لكن كما ذكر تقرير بيجين، فإن تحقيق المساواة من أولويات الدولة المصرية، التي أصبحت تلقي القبض على النساء وتخفيهن قسرياً وتستجوبهن بمقرات الأمن الوطني تماماً مثلما تفعل مع الرجال.
وطالبت السيدة ليلى أبو اسماعيل العمال بالصبر حتى آخر تشرين الأول/ نوفمبر المقبل لاحتمالية الحصول على الحد الأدنى للأجور، وهي عضو مجلس النواب عن دائرة سمنود وابنة وزير المالية الأسبق أحمد أبو اسماعيل. وحاولت ليلى نقل تجربتها في بنغلاديش للعمال، فذكرت أن العمال في بنغلاديش يتقاضون ملاليم ويعيشون في ظروف شديدة الصعوبة وعلى رغم ذلك ينتمون الى البلد والمصنع، وحذّرتهم من استمرار الإضراب والتمرد كي لا يأتي مستثمر أجنبي يجلب عمالاً من بنغلاديش و”يشتغلوا زي القرود ويرضوا بأي حاجة”.
حركة نسوية منزوعة السياسة
لم يجذب إضراب عمال وعاملات “وبريات سمنود”، انتباه المبادرات النسوية الشابة التي ارتفع صوتها منذ عام 2017، بعد حملة “أنا أيضاً” العالمية مثل Speak up، وهي مبادرة ضد العنف بكل أشكاله، وغيرها، لأنها لا تتناول القضايا “السياسية” لسبب أو لآخر.
ولدت الحركة النسوية كحركة سياسية، فطالبت الموجة الأولى بحق النساء في التمثيل السياسي، ورفعت نسويات الموجة الثانية شعار “الشخصي سياسي”، فالسياسة توجد حينما توجد فروق في موازين القوى بين طرفين. لكن الحراك النسوي المصري أصبح منزوع السياسة، فقد حدد الوضع الأمني في السنوات العشر الماضية القضايا النسوية التي يمكن تبنيها، من التحرش، أو الابتزاز الإلكتروني، ومحاربة ختان الإناث… وهي قضايا لم تعد تزعج الدولة كثيراً، فنحن لم نعد في عام 2008، إذ تنكر قرينة رئيس الجمهورية وجود ظاهرة تسمى التحرش، على العكس تحاول الدولة احتواء هذه القضايا، فتلجأ إلى تغليظ عقوبة التحرش، وهي الطريقة الوحيدة التي تعرفها الدولة للقضاء على ظاهرة ما، بل وتلجأ الى دعم قضايا “المرأة” في بعض الأحيان بالشكل الذي تجيده.
لم تمنح الدولة هذه المساحة للنساء المصريات بل انتزعنها بنضالهن التاريخي ضد التحرش كما انتزعن مساحات للحراك النسوي بعد ثورة يناير، تكونت في الميدان فولدت جذرية تواجه السلطة، وتورطها في صراعها النسوي، كمشاركات في العمل السياسي بشكل نسوي على حد تعبير الدكتورة هالة كمال في كتاب “لمحات من مطالب الحركة النسوية المصرية عبر تاريخها”.
عندما تهاوت كل المساحات العامة بعد تقلّد اللواء عبد الفتاح السيسي الحكم، وفرض حظر التجول في الشوارع حرفياً ومجازياً، صنعت النسويات حراكاً نسوياً إلكترونياً بالحديث والحكي والتضامن النسوي مع الفتيات التي تقتلن في الشوارع وفي المساحات العامة وداخل الحرم الجامعي. سمحت الدولة بهذه المساحة، وانقضت على مكتسباتها أحياناً في مقابل أن تنصرف المبادرات والحركات النسوية إلى ما هو شخصي، وتنحي جانباً كل ما هو سياسي. ومع هذه المساحة التي خلقتها النساء، ومطالبتها الدولة بالقيام بدورها في الحماية التشريعية للنساء من العنف والتحرش، لم تعد النسوية تقف في مواجهة السُلطة التي تعنف النساء وتتحرش بهن في السجون وتتبنى سياسات إفقار للنساء والأمهات المعيلات، ولا تضمن لهن تطبيق الحد الأدنى من الأجور، وتنكل بالسجينات الجنائيات والسياسات، كما لم تعد النسويات قادرات على الخروج للميدان، فالنساء اللواتي يواجهن السلطة على الأرض في هذه اللحظة -وإن لم يطلقن على أنفسهن نسويات- هن في سمنود.
“يا واخد قوتي يا ناوي على موتي”
تشكّل النساء ثلثي العمالة في شركة “وبريات سمنود”، يعملن بالأقسام الخدمية منذ أن كن في سن الخامسة عشرة، ويعمل الرجال بالأقسام الإنتاجية. لا تراعي الشركة الأدوار الاجتماعية للنساء، فلا تحتوي على حضانة على الرغم من وجود قانون يلزم صاحب العمل في المنشأة التي تحتوي على 100 عاملة بإنشاء حضانة.
“حتى بهذا الكم من الاعتقالات وهذا الكم من البهدلة، لا تزال العاملات صوتهن أعلى”، هذا ما تقوله لـ”درج” ندى نشأت، محامية ومسؤولة برنامج المشاركة العامة للنساء في مؤسسة قضايا المرأة الشخصية.
ترى ندى أن العاملات ليس أمامهن خيار آخر، فهن لن يركبن مركب هجرة غير شرعية، أو يلجأن الى العمل على “توك توك”، لذا فليس أمامهن سوى الاستمرار في المعركة.
وتضيف أنه تاريخي،اً كانت العاملات دائماً متصدرات الحراك العمالي لأسباب مختلفة، أولها أن الغالبية العظمى من العمالة من النساء، ولأن التعامل الأمني معهن في السابق كان مختلفاً عن زملائهن ولم يكن بالشكل الذي نراه الآن. لكن، وعلى الرغم من تصدر النساء الإضرابات، لم تقدم عاملة على الانضمام إلى اللجنة النقابية أو تترشح للنقابة العمالية، وهو ما قد يثير التساؤل حول ما إذا كانت تحركاتهن تُجرى بحسب الحاجة الآنية.
وتشير الى أن هناك سبباً آخر للإحجام عن المشاركة في العمل النقابي، وهو أدوارهن الاجتماعية والتزاماتهن الأسرية. وتلفت ندى التي زارت المصنع مع وفد صغير من المحاميات والصحافيات تضامناً ودعماً للعمال والعاملات في الإضراب الأخير، الى أن “المرة دي الوضع أصعب”، فالأمن قد داهم منازل العاملات واقتادهن إلى مقرات الأمن الوطني بملابس البيت، وهو ما يذكرها بحوادث الإرهاب في الصعيد في التسعينات حين اقتاد الإرهابيون النساء من منازلهن بملابس البيت، فخرج أهل الصعيد عليهن بالسلاح.
لكنها ترى أن الوضع مختلف بالطبع اليوم، وما تتخوف منه أن ما يحدث هو محاولة لزجّ المجتمع بشكل ممنهج ليتحوّل الى العنف، في ظل التعامل الأمني غير المبرر وغير القانوني من إدارة الشركة ومن الوزارات.
هؤلاء العاملات -تستطرد ندى- يرتبطن بشكل وثيق بماكيناتهن اللواتي يعملن عليها، فهذا المصنع صنعنه بأيديهن، ففي عام 2024 أيضاً، تصدرت النساء اعتصاماً أمام باب المصنع، لأن إدارته عزمت على بيعه، ورأين حينها أن الإدارة تحاربهن في قوتهن وقوت عائلاتهن أو كما قلن حينها “يا واخد قوتي يا ناوي على موتي”.