استطاع مصطفى حجازي عبر كُتبه الأشهر “الإنسان المهدور” و”التخلف الاجتماعيّ”، أن يسلط الضوء على مفاهيم الهدر الاجتماعي والقهر النفسي، مفسراً الأبعاد النفسية والاجتماعية لمأساة الإنسان العربي.
“يستطيع الإنسان أن يعيش بدون خبز، ولكنه يفقد كيانه الإنساني إذا فقد كرامته وظل عارياً أمام عاره. تلك هي النقطة التي تنهار معها الطاقة على احتمال مأساة القهر والبؤس”، يقول مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”.
حجازي الذي رحل عن عالمنا أكاديمي وعالم نفس لبناني، أمضى سنوات يعمل على تحليل النفسية الاجتماعية، بخاصة في سياق الإنسان العربي المقهور والمجتمعات المتخلّفة. استطاع حجازي أن يدمج بين التحليل النفسي وعلم الاجتماع والفلسفة لتفسير معضلات الإنسان المعاصر، بخاصة في مجتمعات تعاني من القهر، الاستبداد، والتهميش، وجعل من الفلسفة والتحليل النفسي أدوات لفهم أعماق النفس البشرية في مواجهة واقع القهر والظلم.
من خلال كتابه الشهير “الإنسان المهدور”، استطاع حجازي أن يسلط الضوء على مفاهيم الهدر الاجتماعي والقهر النفسي، مُعطياً الأبعاد النفسية والاجتماعية لمأساة الإنسان العربي. عرّف الهدر بأنه تلك الاعتداءات غير المستحقة التي يتعرض لها الفرد، والتي تدمّر حسه بالقيمة، وتجعله عالقاً في دوامة من الاكتئاب الوجودي والغضب والإحباط. في هذه الرؤية، يرى حجازي أن الهدر ليس مجرد مسألة شخصية بل هو جزء من البنية المجتمعية القمعية التي تعرقل تطور الفرد وتدفعه إلى الانغلاق أو الانفجار.
تحليل الفرد في المجتمع المتخلّف
تأثر حجازي بأعمال فرويد، إريك فروم، وجان بول سارتر، ولكنه طور رؤيته الخاصة لتحليل الإنسان العربي في العالم المتخلّف. من خلال كتابه “التخلف الاجتماعي”، حاول حجازي تقديم تفسير نفسي اجتماعي لمشكلات الشرق الأوسط والعالم الثالث، متناولًا قضايا الحروب والاستبداد والفقر.
بحسب حجازي، يعيش الإنسان في هذه المجتمعات في حالة من الانفصال عن العلم، حيث يتم إقصاؤه من المشاركة في الإنتاج والتصنيع، ما يعمق شعوره بالهشاشة والفشل. يرى حجازي أن هذه الهزائم المتكررة، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي، تولد حالة من التشاؤم الوجودي والانكفاء على الذات.
الاكتئاب الوجودي وانعدام القيمة
صنّف حجازي الاكتئاب الوجودي كنوع مميز من الاكتئاب، معتمداً في تفسيره على استجابة الفرد للعوامل الخارجية التي تُسبب له الهزيمة وتفقده الإحساس بقيمته الشخصية. وربط حجازي هذا النوع من الاكتئاب بالتسلط والقمع الذي يمارسه المجتمع، ما يؤدي إلى مزيج من النفور الوجودي والانطواء أو الانفجار العنيف كاستجابات للظروف.
في كتابه “الإنسان المهدور”، يعرض حجازي كيف أن تراكم الهدر، الذي يعرّفه كـ “الاعتداء غير المستحق الذي يتخذ طابع الظلم وعدم الإنصاف”، يجعل الفرد يعاني من صراع داخلي كبير.
في كتابه “الإنسان المهدور”، يعرض حجازي كيف أن تراكم الهدر، الذي يعرّفه كـ “الاعتداء غير المستحق الذي يتخذ طابع الظلم وعدم الإنصاف”، يجعل الفرد يعاني من صراع داخلي كبير.
يميّز حجازي بين الاكتئاب المرضي الناتج من خلل في بعض الناقلات العصبية، مثل السيروتونين، وبين الاكتئاب الوجودي الذي يعدّ رد فعل معتاداً على الخسارة والهزيمة، إذ يعبّر عن فشل الفرد في تحقيق ذاته واستعادة قيمته. ويصف الهدر بأنه “تفشيل مشروع صناعة الوجود والمصير والقيمة”، ما يولّد مشاعر الغضب والحزن والاكتئاب، كما ذكره حجازي بالاقتباس من عالم النفس الأميركي سكوت بيك: “الخطر قرين القلق، والخسارة قرينة الحزن والاكتئاب، والظلم هو قرين الغضب”.
ثلاثيّة التخلّف والاستلاب والهدر
هذه الثلاثية هي الإطار الفكري الرئيسي الذي قدّمه لتفسير الأزمات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الإنسان المقهور في المجتمعات المتخلّفة، وبخاصة في العالم العربي. هذه المفاهيم الثلاثة مترابطة وتشكّل ركائز لفهم علاقات الفرد والمجتمع في ظلّ الاستبداد والتهميش والظلم.
أما الهدر، فيعرّفه بأنه الاعتداء غير المستحق على القيمة الإنسانية، وكيف يسلب الفرد قدرته على النمو والتطور، وهنا يفسّرالاستلاب بأنه شعور الإنسان بالعزلة والاغتراب عن مجتمعه، وذاته نتيجة الهدر والقمع الاجتماعي. بينما التخلّف، فيعتبره نتاجاً للظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعوق تطوّر المجتمع، وهذا الأخير يعيش في حالة من الجمود وعدم القدرة على التقدم. التخلف هنا ليس مجرد حالة اقتصادية، بل يمتد ليشمل التخلف النفسي والمعرفي، إذ يُعيق الإنسان من تحقيق إمكاناته الكاملة نتيجة للقيود المفروضة عليه من النظم الاجتماعية والسياسية.
هذه الثلاثية تمثّل حلقة مفرغة، حيث يُنتج الهدر استلاباً على المستوى النفسي والاجتماعي، ويؤدي الاستلاب إلى مزيد من التخلف على المستوى المجتمعي. وهذه الدوامة تستمر في قهر الإنسان ومنعه من التحرر وتحقيق ذاته، إذ يبقى عالقاً في دوامة من القهر والانكسار أمام أنظمة سلطوية وظروف معيقة للنمو والتطور.
المجتمع والدين
في تحليله للعائلة، العمل، والسياسة في المجتمعات المتخلّفة، يرى حجازي أن هذه المؤسسات تلعب دوراً في تعزيز حالة الهدر والقهر. فهو يعتبر أن الدين في كثير من الأحيان يُستخدم كأداة للسيطرة على الفرد وإخماد أي نزعة تحررية، بدلًا من أن يكون وسيلة لتوفير المعنى والقيمة. لقد كان حجازي ناقداً للواقع المجتمعي الذي يساهم في تفاقم الأزمات النفسية والوجودية للفرد، مشيراً إلى أهمية بناء مجتمع قائم على العدالة والحرية لاستعادة قيمة الإنسان.
انتقاص القيمة وهوية الفشل
يشير حجازي إلى أن الهدر يتجسد غالباً في ثنائيات، مثل الحزن والاكتئاب، ما يؤدي إلى إهانة وجودية عميقة. هذه الإهانة تنعكس على انتقاص القيمة والكرامة، وهو ما قد يجعل الفرد يتبنى هوية الفشل، ما يُعمّق الشعور بالاكتئاب والحزن. وعندما يفشل الفرد في تحقيق الذات، يقترن ذلك بالخطيئة والذنب، وهو ما يولد مشاعر الحقد على الذات، وأحياناً يصل إلى جلد الذات أو تحطيمها. وفي النهاية، حين تتعطل نزوة الحياة والنماء، تصبح نزوة الموت هي المسيطرة في حياة الفرد.
لا تزال رؤية مصطفى حجازي الشاملة حول القهر والهدر والتخلّف، تُلهم الباحثين والمفكرين لاستكشاف أسباب الأزمات النفسية والاجتماعية. كما أن كتبه تُعد مرجعاً أساسياً لفهم معضلات الإنسان العربي في مجتمعات تعاني من الاستبداد والتهميش، ما يضمن استمرار تأثيره في الحوارات الأكاديمية والمجتمعية لسنوات مقبلة.