“ماتت أمي ولكنني عبرت المصنع وودّعتها، كدت أسقط في الحفرة التي صنعها القصف الإسرائيلي في قلب الحدود، والآن أنا عاجزة عن العودة الى أطفالي في لبنان، لربما كان عبوري المصنع أمراً روتينياً في مكان وزمان مختلفين، ولكن الأزمة الحالية جعلته معجزة، رأيت الموت وأنا حية، شاهدت الناس يحملون حيواتهم في حقائب، ويمشون من الموت الى الموت، هرباً من الموت.

“عبرتُ نقطة المصنع مشياً لأودّع أمي التي توفيت في سوريا، توسّل الأصحاب ألّا أعود الى سوريا، لقد ماتت أمي، ماتت أمي في الحرب طاعنة في السن، لم تقتلها إسرائيل، بل ماتت بسلام، أما إسرائيل فقد قتلت فرصتي الوحيدة في توديعها، حفرة بعمق ستة أمتار على امتداد المعبر، قصف مستمر، تهجير وتزاحم وخوف. حرمني هذا كله، وغربة مريرة، من أمي كلّ هذه السنين”.

هذه قصة امرأة عبرت المصنع من لبنان إلى سوريا مشياً، بقدمين متورّمتين و “ديسك” في العمود الفقري، لتواري أمها الثرى، هذه قصة كلّ مهجر ولاجئ ونازح، يلتفّ السياج الحدودي حول عنقه كحبل المشنقة، قصة تشبه كلّ قصصنا نحن المحرومين من أبسط حقوقنا، كأن نودع أهلنا، ونعيش في أوطاننا حياة كريمة، ونتحرك بحرية مثل كل البشر.

حكت لي سنا (اسم مستعار، 40 عاماً) وهي أم لطفلين، متزوجة من لبناني: “عشت في لبنان حياة جيدة، على رغم أني سورية متزوجة من لبناني، عانيت من العنصرية، ومن الاتهامات بزواج المصلحة وما إلى ذلك، إلا أن كثيرين من اللبنانيين عاملوني كأنني واحدة منهم”.

تضيف سنا: “جاءت الحرب الى لبنان قاسية ومفاجئة، لم أعش الحرب في سوريا لأنني كنت متزوجة في لبنان، لكنني عشت شذرات منها في زياراتي، وفي خوف أهلي ومكالماتهم وحديثهم لي، وفي وحدة أمي التي تعيش وحدها في قريتنا، كانت تحكي لي عن الحرب، وعن قلقها وشوقها لي ولأختي المسافرة”.

اضطرت سنا للمشي من المصنع اللبناني الى مركز جديدة يابوس الحدودي، قالت لي في حديثها: “قيل لنا إن هنالك باصات تمر لأخذ الناس من الحفرة التي تركها القصف الإسرائيلي على طريق بيروت – دمشق، ولكن لهفتي لحضور دفن والدتي دفعتني الى المشي كالمجنونة، مشيت مسافة كيلومترين، الى أن توقّفت إحدى السيارات وأقلّتني إلى دمشق مقابل 20 دولاراً أميركياً”. فيما كانت تكلفة الرحلة من دمشق الى لبنان “شتورة” قبل حرب إسرائيل على لبنان، تبلغ 10 دولارات للشخص الواحد، في سيارة تتّسع لـ4 لأشخاص، أي أن السائق يتقاضى 40 دولاراً للرحلة، وهذا الرقم الوسطي. وكان يتقاضى بعض السائقين مبالغ إضافية، خصوصاً إذا كانت الرحلة الى بيروت، فمثلاً كانت تبلغ كلفة التاكسي من دمشق الى مطار رفيق الحريري نحو 50 دولاراً.

أما اليوم، فصار السائقون يتقاضون أجوراً مضاعفة، إذ تبلغ تكلفة الرحلة الى سوريا اليوم نحو الـ 100 دولار للشخص.

“كنت أخاف من زياراتي الى سوريا، فهي تجعلني دائماً معرّضة وزوجي وأطفالي لخطر القصف أو الاختطاف. سوريا لم تكن يوماً آمنة، وكنت أن لبنان مكان آمن ولكنه لم يعد كذلك”.

وفي هذه الحال، لا يمكن لوم السائق على رفع أجره، فهو يعرض حياته للخطر، وفيما تقع مسؤولية نقل النازحين على عاتق السلطات اللبنانية والسورية، لا يوجد حالياً أي جهة فاعلة تنظم النقل اليوم لهم، لذلك يضطر النازحون لدفع مبالغ مرتفعة للوصول الى سوريا، التي ليست بمنأى عن القصف، إذ إن الاحتلال يعمد خلال الفترة الأخيرة الى قصفها بشكل مكثف.

تتابع سنا قائلة: “كنت أخاف من زياراتي الى سوريا، فهي تجعلني دائماً معرّضة وزوجي وأطفالي لخطر القصف أو الاختطاف. سوريا لم تكن يوماً آمنة، وكنت أن لبنان مكان آمن ولكنه لم يعد كذلك”.

تحدّثنا أنا وسنا عن الموت، وكيف تغيّر شكله في بلداننا، وتحديداً وقعه على نفوسنا وسبلُ تعاطينا مع هذا الحدث كواقعة صادمة، وكيف بتنا نتلقى خبر وفاة شخص ما بسؤال بديهي عن سبب الوفاة، فإن كان الشخص توفي جراء وعكة صحية، أو إثر الشيخوخة والتقدم في العمر، نتبادل برضا عبارات الامتنان، تسليماً بقضاء الله وقدر هذا الإنسان الذي نعدّه محظوظاً قائلين: “الحمدالله أنه مات بين أحبابه، رحمه الله ارتاح من العذاب، حان وقته ومات مرتاحاً…”.

يعد الموت بسبب الشيخوخة امتيازاً ونعمة في يومنا هذا لكثيرين، لكن ديمة لم تستطع أن تكون ممتنة لوفاة أمها في المستشفى جراء فشل في القلب، وليس إثر القصف.

تختلف طريقة نعينا في العالم ثالث باختلاف أزماتنا، وتتنوع ما بين الاستشهاد أو القتل، الذبح أو التغييب والموت إثر التعذيب، وذلك بالطبع حسب المكان والزمان، وأحياناً حسب موقفك السياسي!

بات الموت بسبب المرض رحمة في نظر كثيرين، ففيه يعتبر الميت محظوظاً لحصوله على قبر يحفظ كرامته. تموت فتسمّى محظوظاً وتُحسد، ولكن للأسف قد لا يحصل موت المريض أو العجوز على الجلبة ذاتها التي يحصل عليها الشهيد، وكأن موته ليس ذا قيمة، وذلك- للأسف – لأنه كان محظوظاً أكثر من ذلك المسكين الذي قضى في الحرب أو نتيجة لها.

تلك المفارقة التي قد تبدو بسيطة، ستؤثر في وعي جيل كامل حول الموت والحياة وقيمتهما. حكت لي سنا أنها شعرت باستخفاف الناس بموت والدتها، وبحزنها، فقط لأنها ماتت مريضة، ولأن الناس يموتون بالمئات اليوم في فلسطين ولبنان، وهم في عز الشباب. تقول: “شعرت بأن عليّ الخجل من تعبيري عن حزني لوفاة أمي، أمام كل هذا الموت الذي نشهده، وهذا القتل والتعذيب والانتهاك، لقد ماتت أمي لكن المصيبة التي نعيشها جعلتني صغيرة جداً، جعلت حزني حقيراً، وأشعر أن أمي ظُلمت، ظلمها الله في ميتة كريمة، وتلك مفارقة صعبة”.

تتعدد الفرضيات والموت واحد، ولكن تقبّلنا له كأحياء وتعاملنا معه يصنع الفرق في حياتنا وفي فكرنا. في هذا العام، مات الكثير من الشباب في سوريا، شباب في العشرينات يموتون نتيجة جلطات، أو يموتون منتحرين، بسبب الضغط النفسي والصدمات المعرضين لها يومياً، صارت الحياة عبئاً كبيراً يثقل النفس، ناهيك بكثرة الحوادث التي قتلت شباباً بعمر الورد، صار الموت أكثر عبثية، وتغيرت قيمته بحد ذاتها كفعل يقوم به الجسد أو تقوم به الطبيعة، الى حدث يتم ارتكابه وفرضه على الإنسان الحي قسراً، ما بين الموت لأسباب طبيعية والقتل أو الموت المفاجئ، تغيّرت حساباتنا وتغير شكل مراسمنا، وسيتغير وعينا الى الابد.

“ماتت أمي ولكنني عبرت المصنع وودّعتها، كدت أسقط في الحفرة التي صنعها القصف الإسرائيلي في قلب الحدود، والآن أنا عاجزة عن العودة الى أطفالي في لبنان، لربما كان عبوري المصنع أمراً روتينياً في مكان وزمان مختلفين، ولكن الأزمة الحالية جعلته معجزة، رأيت الموت وأنا حية، شاهدت الناس يحملون حيواتهم في حقائب، ويمشون من الموت الى الموت، هرباً من الموت. والكل يسألونني: هربتِ من الجنوب؟ فأجيب كلا، لست هاربة، فيستغربون لماذا أعرض حياتي للخطر بين الهاربين. ماتت أمي والناس تستغرب تهوّري وحزني، كيف سأسمح للحرب بأن تطغى على موت أمي، وكيف سأسمح لنفسي أن أتكبر على موت الأطفال وقصف المدن، لا أدري أين أقف من هذا كله، ولا أدري، أين أذهب بحزني الصغير بين حزن كل هذه الأمة؟”.

محمد المخلافي

صحافي يمني حاصل على درجة الليسانس في الشريعة والقانون